أخبار دولية

تونس تشهد أسوأ مراحل الانقلاب

دخلت تونس منذ 25 يوليو/تموز 2021 منعطفا حاسما كشف حجم التداخل بين الخصومات الأيديولوجية والانقلابات على الديمقراطية، حيث لم تعد الصراعات تُدار داخل المؤسسات، بل تحولت إلى أدوات لهدمها. فقد شكلت لحظة إغلاق البرلمان بالدبابة إعلانا رمزيا وسافرا لانهيار مسار ديمقراطي بأكمله، لا مجرد إقصاء لحزب أو قيادة بعينها.

في هذا السياق، برز الاتحاد العام التونسي للشغل كفاعل مركزي، لا في الدفاع عن الديمقراطية كما كان يُفترض، بل كمساهم في شرعنة الانقلاب، من خلال خلط الصراع السياسي بمواقف أيديولوجية ضيقة.

لم يكن الموقف العدائي من حركة النهضة مجرد خلاف سياسي، بل بوابة لتبرير التفريط في المكتسبات الديمقراطية، حيث انخرط الاتحاد، ومعه أطراف من اليسار الراديكالي والقوميين، في دعم ما اعتبروه آنذاك “تصحيحا للمسار”، قبل أن يتضح لاحقا أنه تقويض ممنهج للفضاء السياسي والمدني.

وبدلا من أن يكون الاتحاد قوة توازن وحوار، اختار الاصطفاف مع السلطة، ثم وجد نفسه لاحقا مهمشا في مشهد تسوده الفردانية والشعبوية. وهكذا، لم يؤد ضرب النهضة إلى إنهاء حزب بقدر ما ساهم في إسقاط منظومة الحريات والديمقراطية بأكملها.

لم تكن مناصرة الاتحاد لانقلاب 25 يوليو/تموز تحولا طارئا في مواقفه، بقدر ما كانت استمرارا لنهج تاريخي درجت عليه المنظمة، قوامه التموقع داخل السلطة لا في مواجهتها.

فدعم الانقلاب لم يكن خروجا عن دور نقابي وطني يفترض أن ينحاز إلى قيم الديمقراطية والحريات، بل كان تجسيدا لوظيفة لعبها الاتحاد مرارا: الالتحاق بدوائر الحكم متى سنحت الفرصة، ولو على حساب استقلاليته وشعاراته.

كان المأمول من الاتحاد، في لحظة مفصلية كهذه، أن يرفض الانقلاب، وأن ينحاز للشرعية، ويلتحم بقوى المعارضة دفاعا عن المسار الديمقراطي، لكنه اختار موقعا مغايرا، مفضلا الاصطفاف إلى جانب السلطة، ومؤكدا بذلك أنه جزء من بنية الحكم لا قوة مضادة لها.

الغنوشي يسبق الجميع
صباح 26 يوليو/تموز 2021، بدا المشهد أمام مقر مجلس نواب الشعب أقرب إلى لحظة درامية كثيفة الرمزية، تعكس انهيارا قيميا وسياسيا بلغ مداه، حين أُغلق البرلمان بدبابة في وجه رئيسه، راشد الغنوشي.

لم يكن الإغلاق مجرد إجراء شكلي أو أزمة عابرة، بل كان إعلانا صريحا لانقلاب سياسي، وشرخا عميقا في المسار الديمقراطي التونسي.

كان مشهد الدبابة أمام البرلمان كافيا وحده لتسمية ما حدث انقلابا واضحا لا يحتاج إلى تأويل، بينما سمى الغنوشي ما حدث انقلابا منذ اللحظة الأولى، تواطأ خصومه السياسيون والنقابيون والمثقفون مع الانقلاب وراهنوا عليه واعتبروه بداية عهد سياسي جديد يُطوى فيه ملف النهضة.

لكنهم غفلوا عن أن إسقاط النهضة بهذه الطريقة كان بوابة لإسقاط التجربة الديمقراطية برمتها، والتهام كل الفضاء العام: السياسي والمدني والإعلامي، وصلاحيات الدولة، وأن هؤلاء الحالمين بالشراكة في السلطة الجديدة سرعان ما أصبحوا ضحايا، بعدما صفقوا للانقلاب وأغدقوا عليه أوصافا لم تكن فيه.

التواطؤ الأيديولوجي: حين اختلط الخصوم بالديمقراطية
على الطرف الآخر من الشارع، جُلب عشرات من الشبان والكبار، بعضهم من أماكن مشبوهة، ليهتفوا بشعارات بذيئة ومسيئة للثورة ومؤسساتها، خصوصا البرلمان ورئيسه وحركة النهضة. تصاعدت الأمور إلى العنف المادي، حيث تعرضت سيارة الغنوشي لهجوم بالحجارة والمقذوفات، وسط صمت مريب من الشرطة، تماما كما حدث لاحقا في محاصرة مقر اتحاد الشغل 7 أغسطس/آب الجاري.

كان صباح 26 يوليو/تموز 2021 بداية مرحلة جديدة في تونس، حيث أُلبست الردة ثوب “تصحيح المسار”، وانقلبت القيم الديمقراطية رأسا على عقب. وجد خصوم النهضة، من اليسار المتطرف والقوميين والعلمانيين وبعض منظمات المجتمع المدني، ومنها اتحاد الشغل، فرصة لتصفية حسابات أيديولوجية عميقة الجذور.

أعرب الأمين العام المساعد للاتحاد، سامي الطاهري، عن هذا الموقف بوضوح حين خاطب الرئيس قيس سعيد بقوله: “يا ريس، خذها ولا تخف، توكل، لا تكن مهوما، قم، انهض، قرر، افعل، أو ارقد إلى الأبد”.

وقال حفيظ حفيظ عضو المركزية النقابية إن “الاتحاد لن يتحاور مع من يعتبر ما قام به قيس سعيد انقلابا”. كلمات اعتبرها البعض حماسا ثوريا، لكنها في جوهرها تحريض على الانقلاب على المسار الديمقراطي، وتعزيز فكرة “الرجل المنقذ” على حساب المؤسسات والدستور.

خطأ إستراتيجي مكلف: ضرب النهضة لم يسقط الحزب بل أسقط الديمقراطية
من المفارقات أن الذين حملوا حركة النهضة مسؤولية الأزمة ومهدوا لانقلاب 25 يوليو/تموز، هم اليوم من يدفع الثمن. فقد فقدَ الاتحاد بريقه، وأصاب الوهن منظمات المجتمع المدني، وانكشفت هشاشة “العائلة الديمقراطية”. كان الخطأ في الاعتقاد بأن إسقاط النهضة سيؤدي إلى القضاء على خصم سياسي، بينما أدى ذلك في الواقع إلى تقويض الديمقراطية برمتها.

فشل الاتحاد، كما فشلت الأحزاب، في إصلاح نفسه ومراجعة مواقفه، وحماية نفسه من الانقسام والتوظيف السياسي. لم تكن المعركة ضد النهضة معركة مبادئ تحمي قيم الجمهورية، بل كانت تصفية حسابات أيديولوجية ضيقة، تخلت فيها النخب عن دورها التاريخي في حماية الحريات والانتقال الديمقراطي، واصطفت وراء مشروع فرداني قائم على الشعبوية والعداء للمؤسسات.

بعد أربع سنوات من الانقلاب، تَظهر نتائج هذه اللحظة العاطفية بوضوح: ديمقراطية معلقة، مؤسسات معطلة، قضاء مسير، إعلام مكتم، وفضاء مدني يتآكل. بينما تتصاعد أصوات من كانوا جزءا من “التصحيح الثوري” تطالب اليوم باستعادة الديمقراطية بعدما تبين لهم فشل الرهان على الفرد.

انحرف الاتحاد عن دوره الوطني خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، إذ تحول إلى إحدى أذرع الثورة المضادة وواجهة من واجهات الدولة العميقة، وفتح أبوابه لخصوم حركة النهضة ليصبح حاضنتهم السياسية والنقابية.

خسر الاتحاد بهذا التموضع الخطأ صورته كرافد من روافد الحركة الوطنية ومكون أساسي في بناء الدولة منذ فجر الاستقلال. وفي لحظة 25 يوليو/تموز، فقد جزءا آخر من رمزيته بدعمه الصريح للانقلاب ومراهنته عليه وتبرّئِه من المعارضة، وسعيه للبقاء ضمن الحزام السياسي للرئيس قيس سعيد، في مشهد يعكس انفصال الاتحاد عن تاريخه وتخليه عن استقلاليته التي طالما تباهى بها.

زر الذهاب إلى الأعلى