أخبار التقنية

كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل مستقبل الإبداع البشري؟

بدأ الذكاء الاصطناعي كمحاولة علمية وهندسية لمحاكاة الدماغ البشري وقدراته المعرفية المعقدة، لكنه اليوم يتجاوز هذا الهدف ليصبح قوة تحويلية تعيد تشكيل دور العقل البشري في حياتنا اليومية.

فبينما قللت الثورة الصناعية من الحاجة إلى العمل اليدوي والعضلي، يبدو اليوم أننا الآن على أعتاب ثورة معرفية قد تلغي الحاجة إلى بعض العمليات المعرفية البشرية، في حين تعيد صياغة الطرق التي يكتب بها الطلاب، ويعمل بها الموظفون، ويبدع بها الفنانون، ويتخذون بها قراراتهم، مما يعيد تشكيل طرق عملنا وإبداعنا.

ولكن ما التداعيات الاقتصادية والثقافية لهذا التحول؟ وكيف يمكننا الحفاظ على الإبداع البشري في عصر يهيمن عليه التفكير الخوارزمي؟

أصداء من الماضي.. الثورة الصناعية كمرآة:
التاريخ يعيد نفسه، لكن بثوب جديد، فخلال الثورة الصناعية، حلّ الإنتاج الآلي محل الحرف اليدوية التقليدية، مما سمح بتصنيع السلع وتكرارها على نطاق واسع بكفاءة وتوحيد غير مسبوقين، وقد أتاح ذلك إنتاج الأحذية والسيارات والمحاصيل بسرعة وانتظام، لكن الثمن كان منتجات أكثر رتابة، يمكن التنبؤ بها، ومجردة من اللمسة الفردية، وتراجعت الحرفية إلى الهامش، لتصبح ترفًا أو شكلًا من أشكال المقاومة ضد الرتابة الصناعية.

واليوم، نشهد تحولًا مماثلًا مع أتمتة الفكر، إذ يُغري الذكاء الاصطناعي التوليدي مستخدميه بالخلط بين السرعة والجودة، وبين الإنتاجية والأصالة، فعلى سبيل المثال: يستعين مصممو الجرافيك به لإنشاء باقة متنوعة من الشعارات المحتملة لعملائهم في وقت وجيز. أما المسوقون، فيستخدمونه لاختبار تفاعل ملفات العملاء الافتراضية التي يولدها الذكاء الاصطناعي مع حملاتهم الإعلانية، ويقلل ذلك من الحاجة إلى التجربة والخطأ البشري في فهم سلوك المستهلك ويجعل الحملات التسويقية أكثر استهدافًا وفعالية.

كما يعتمد مهندسو البرمجيات على مساعدين للبرمجة يعملون بالذكاء الاصطناعي لتسريع عملهم، وحتى في المجال الأكاديمي، يستخدم الطلاب الذكاء الاصطناعي لصياغة المقالات بسرعة قياسية، ويستعين المعلمون بأدوات مشابهة لتقديم تقييمات وملاحظات فورية لهم.

ومع ذلك لا يكمن الخطر الحقيقي في فشل الذكاء الاصطناعي، بل في قبول المجتمع لرداءة مخرجاته وعدِّها المعيار الجديد، فعندما يصبح كل شيء سريعًا وسلسًا، وجيدًا بما يكفي، فإننا نجازف بفقدان العمق، والفروق الدقيقة، والثراء الفكري الذي يميز الأعمال البشرية الاستثنائية.

لذلك تثير هذه التطورات تساؤلات جوهرية حول مستقبل المهارات البشرية، فماذا سيكون مصير الكاتب الذي لم يَعد يعاني للبحث عن العبارة المثالية، أو المصمم الذي لم يَعد يمضي ساعات في رسم العشرات من النماذج المختلفة قبل أن يستقر على التصميم المنشود؟

هل سيصبح هؤلاء أكثر اعتمادًا على هذه الأدوات المعرفية الاصطناعية، بطريقة قد تضعف قدراتهم المعرفية الأساسية، تمامًا كما أضعف استخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) مهارات الملاحة التقليدية؟ والأهم من ذلك، كيف يمكننا الحفاظ على الإبداع البشري والتفكير النقدي في عصر تُهيمن عليه وفرة الخوارزميات؟

ما مخاطر الرداءة الخوارزمية؟
خلافًا لاسمه، فإن الذكاء الاصطناعي لا يفكر فعليًا بالمعنى الإدراكي البشري، فأدوات مثل: ChatGPT، و Claude، و Gemini تعالج كميات ضخمة من المحتوى الذي أنتجه البشر، الذي غالبًا ما يُجمع من الإنترنت دون سياق واضح أو إذن.

وتُعدّ المخرجات التي تقدمها هذه الأدوات مجرد تنبؤات إحصائية للكلمة أو البكسل التالي بناءً على الأنماط والعلاقات الموجودة ضمن كميات البيانات الضخمة التي دُربت عليها. لذلك فهذه الأدوات في جوهرها هي بمنزلة مرايا تعكس الإنتاج الإبداعي البشري الجماعي لمستخدميها، فالمحتوى الذي تنتجه هو في الأساس مُعاد ترتيبه ومدمج من مصادر موجودة سابقًا، لذلك  يظل في جوهره مشتقًا وليس أصيلًا، وهذا بالضبط هو السبب الجوهري لفعاليتها الظاهرية في العديد من التطبيقات.

وعند تأمل كمية رسائل البريد الإلكتروني التي يكتبها الناس يوميًا، والإعلانات التي تملأ منصات التواصل الاجتماعي، ستجد جزء كبير من هذا المحتوى يتبع أنماطًا متوقعة وصيغًا ثابتة، بمعنى آخر، لقد كان هذا النوع من المحتوى موجودًا بالفعل، بشكل أو بآخر، قبل ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي.

لذلك يتفوق الذكاء الاصطناعي التوليدي بنحو خاص في إنتاج محتوى ذي طابع كفء، مثل: القوائم، والملخصات، والبيانات الصحفية، والإعلانات، ويحمل هذا المحتوى سمات الإبداع البشري الظاهرية، لكنه يفتقر إلى تلك البراعة أو الأصالة العميقة التي تميز الإبداع البشري الحقيقي. ومن ثم؛ يزدهر الذكاء الاصطناعي في السياقات التي يكون فيها طلب الأصالة منخفض، وعندما يكون معيار الجيد بما فيه الكفاية مقبولًا ومناسبًا للغرض.

زر الذهاب إلى الأعلى